كشفت دراسة علمية حديثة أن الدهون الحشوية (وهي الدهون المخفية التي تحيط بالأعضاء الداخلية) ترتبط بتسارع عملية شيخوخة القلب والأوعية الدموية، ما يزيد مخاطر الإصابة بأمراض القلب مبكراً.
ورغم أن التقدم في العمر يُعدّ العامل الأكبر لخطورة أمراض القلب، فإن العلماء لطالما تساءلوا: لماذا يشيخ قلب بعض الأشخاص أسرع من غيرهم؟
الدراسة التي قادها فريق من مختبر العلوم الطبية التابع لمجلس البحوث الطبية البريطاني في لندن، ونُشرت في المجلة الأوروبية للقلب تقدّم إجابة جديدة: مكان تراكم الدهون في الجسم قد يكون المفتاح.
اعتمد الباحثون على بيانات أكثر من 21 ألف مشارك في قاعدة بيانات البنك الحيوي البريطاني، التي توفر صوراً كاملة للجسم بتقنية الرنين المغناطيسي، إلى جانب صور تفصيلية للقلب والأوعية.
وباستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، حدد العلماء ما يُسمى بـ”عُمر القلب”، أي العلامات البيولوجية التي تكشف عن شيخوخة مبكرة في الأنسجة مثل التصلب والالتهاب.
كانت النتيجة واضحة، فكلما زادت كمية الدهون الحشوية، زادت سرعة شيخوخة القلب. والمفاجأة أن هذه الدهون لا يمكن تمييزها من الخارج، إذ قد يمتلك بعض الأشخاص وزناً “طبيعياً” لكن مع مستويات مرتفعة من الدهون الحشوية الخفية.
شيخوخة القلب عملية طبيعية لكنها معقدة، تحدث مع التقدم في العمر عندما تبدأ أنسجة القلب والأوعية الدموية بفقدان مرونتها تدريجياً وتزداد صلابتها، ما يضعف قدرة القلب على ضخ الدم بكفاءة ويزيد مخاطر الإصابة بأمراض القلب والشرايين.
وتتميز هذه الحالة بظهور تغيرات بيولوجية دقيقة، مثل الالتهاب المزمن منخفض الدرجة، وتصلب جدران الشرايين، وضعف استجابة الخلايا القلبية للإشارات العصبية والهرمونية.
رصد شيخوخة القلب مبكراً
ورغم أن الشيخوخة أمر لا مفر منه، إلّا أن بعض العوامل مثل تراكم الدهون الحشوية، وارتفاع ضغط الدم، والسكري والتدخين يمكن أن تعجل من وتيرتها وتجعل قلب شخص في الخمسين يبدو وكأنه قلب في السبعين.
وهنا تبرز أهمية رصد شيخوخة القلب مبكراً، إذ يتيح للأطباء فرصة التدخل بوسائل وقائية أو علاجية لتأخير هذه التغيرات، مما يطيل فترة الصحة القلبية ويقلل من خطر النوبات القلبية أو فشل القلب؛ كما أن معرفة “العمر القلبي” مقارنة بالعمر الزمني للشخص تمنح الأفراد وعياً أكبر بحالتهم الصحية الحقيقية، وتشجعهم على تبني أنماط حياة أكثر توازناً، سواء عبر التغذية الصحية أو النشاط البدني أو الفحوص الدورية.
ورصد شيخوخة القلب ليس مجرد إجراء طبي، بل أداة استباقية لحماية أحد أهم أعضاء الجسم وضمان جودة حياة أفضل مع التقدم في العمر.
وقد أظهرت الدراسة أن الفارق بين الرجل والمرأة في توزيع الدهون ليس مجرد مظهر جسدي، بل عامل حاسم في صحة القلب وسرعة تقدمه في العمر، فبينما ارتبط النمط “التفاحي” الشائع لدى الرجال، حيث تتركز الدهون حول البطن، بزيادة خطر الشيخوخة المبكرة للقلب والأوعية الدموية، بدا النمط “الكمثري” الأكثر شيوعاً لدى النساء، مع تراكم الدهون حول الوركين والفخذين، وكأنه يوفر حماية طبيعية تبطئ من عملية الشيخوخة القلبية
وأوضحت الدراسة أن هذه الفوارق ليست سطحية أو شكلية، بل ترتبط بآليات بيولوجية عميقة. فالدهون البطنية، أو ما يُعرف بالدهون الحشوية، تفرز مواد التهابية في الجسم تزيد تصلب الشرايين، وتُضعف مرونة الأنسجة القلبية، وهو ما يسرع الشيخوخة.
في المقابل، يبدو أن الدهون المتركزة في الفخذين والوركين عند النساء أقل نشاطاً من الناحية الالتهابية، بل قد تؤدي إلى توزيع مختلف للطاقة والهرمونات في الجسم يحمي القلب نسبياً.
وقالت الدراسة إن هرمون الإستروجين يؤدي دوراً أساسياً في هذا الأثر الوقائي. فالنساء قبل انقطاع الطمث، حيث تكون مستويات الإستروجين مرتفعة، ظهر لديهن معدل أبطأ من الشيخوخة القلبية.
وتفتح هذه الملاحظة الباب أمام أبحاث مستقبلية تبحث في إمكانية توظيف الإستروجين– أو آليات شبيهة به– في تطوير علاجات موجهة لإبطاء شيخوخة القلب لدى الرجال والنساء بعد سن انقطاع الطمث، وتلمح النتائج إلى وجود دور وقائي محتمل للهرمونات الأنثوية في إبطاء شيخوخة القلب، وهو ما قد يُفتح الباب أمام علاجات هرمونية مستقبلية.
التفاحة والكمثرى
قال المؤلف الرئيسي للدراسة “ديكلان أوريجان” أستاذ الذكاء الاصطناعي القلبي في إمبريال كوليدج لندن: “نحن نعرف منذ زمن الفرق بين شكل التفاحة والكمثرى في توزيع الدهون، لكن لم يكن واضحاً كيف يترجم ذلك إلى نتائج صحية.
وتظهر الدراسة أن الدهون الخفية حول الأعضاء تسرع شيخوخة القلب، بينما بعض أنواع الدهون– خصوصاً حول الفخذين والوركين عند النساء– قد يكون لها تأثير وقائي.
وأشار إلى أن مؤشر كتلة الجسم لم يكن وسيلة دقيقة للتنبؤ بعمر القلب، وهو ما يعزز أهمية معرفة أماكن تخزين الدهون في الجسم، لا مجرد الوزن الكلي.
ويخطط الفريق البحثي مستقبلاً لاختبار دور الأدوية الحديثة مثل مثبطاتGLP-1 على غرار “أوزمبيك”، ليس فقط في علاج السمنة والسكري، بل أيضاً في الحد من الآثار المرتبطة بشيخوخة القلب الناتجة عن الدهون الحشوية.
من جهته، قال المؤلف المشارك في الدراسة برايان ويليامز، كبير المسؤولين العلميين والطبيين في مؤسسة القلب البريطانية: “نحن نعلم بالفعل أن الدهون الحشوية الزائدة حول القلب والكبد ترفع ضغط الدم والكوليسترول، وما يقلق أكثر أنها قد تسرّع أيضاً شيخوخة القلب والأوعية الدموية. ولأن نمط توزيع الدهون عند النساء مرتبط بالإستروجين، فقد يكون هذا الهرمون مفتاحاً لتطوير علاجات وقائية مستقبلية”.
ويشدد الباحثون على أن النظام الغذائي الصحي والنشاط البدني المنتظم يبقيان من أكثر الوسائل فعالية لتقليل مستويات الدهون الحشوية، حتى قبل التفكير في العلاجات الدوائية.