إذا كان العنوان لوحده تسبّب لكَ بصدمة، فانتظر حتى تعرف باقي التفاصيل. لكن نعم؛ اختُرع المنشار الجنزيري في الأصل للمساعدة في عملية الولادة، وليس لتقطيع الأشجار أو الخشب.
ففي القرن التاسع عشر، وقبل الاستخدام الشائع للعملية القيصرية، التي تخضع لها المرأة الحامل اليوم، كان يجب أن يمر جميع الأطفال عبر ما يُسمّى بـ”قناة الولادة”، وهو أمر منطقي. لكن يُمكن أن يتعرّض الأطفال للعرقلة في طريق خروجهم، لو كان حجمهم أكبر من اللازم مثلاً، أو في حال كانت وضعيّتهم مقلوبة.
وقتئذٍ، عندما لا يتمكن الأطفال من التنفس أو يعلقون في الحوض، كان يُستخدم المنشار بهدف إزالة أجزاءٍ من العظام، لتوفير مساحةٍ أكبر للطفل. هذه العملية كان يُطلق عليها -طبيّاً- اسم Symphysiotomy.
إجراء العملية في الأصل كان يتمّ يدوياً؛ من خلال استخدام سكّينٍ صغير ومنشارٍ لإزالة العظام، وكلّ ذلك من دون تخديرٍ للمرأة في منتصف الولادة، كما اليوم. لا حاجة للقول إن العملية كانت تستغرق وقتاً طويلاً، كما أنها فوضوية جداً، ومن الواضح أنها مؤلمة بشكلٍ لا يُصدّق للمرأة.
سبب اختراع المنشار الجنزيري
قبل القرن العشرين، مثّلت ولادة الأطفال تحدياتٍ كبيرة على مدار التاريخ البشري. وربما أصبحت ولادة الأطفال الآن أكثر أماناً، مع انخفاض معدّل وفيات الأمهات إلى 211 لكلّ 100 ألف حالة ولادة -وفق دراسةٍ أعدّتها اليونيسيف عام 2017- لكن نسبة النساء والأطفال الذين فارقوا الحياة أثناء الولادة في الماضي كانت مثيرةً للقلق.
في العصر الروماني مثلاً، كان موت الأم قبل الولادة يمثل تحدياً، لدرجةٍ أنه وُضع قانونٌ يأمر الأطباء بمحاولة إجراء عمليةٍ خطرة، تُعرف باسم “القيصرية” على النساء المتوفيات أو المُحتضرات، من أجل إنقاذ الطفل.

ووفق موقع ati، فقد حملت العملية اسم القيصرية؛ لأن الإمبراطور قيصر هو الذي كتب القانون بنفسه. وإليكم الحقيقة المرعبة: كانت العملية تتطلب من الطبيب تقطيع جسم الأم المُحتضَرة، لإخراج الجنين!
ظلّت عمليات الولادة القيصرية ملاذاً أخيراً طيلة عقود، حين يكون من المستبعد أن ينجح الطبيب في إنقاذ الأم والجنين معاً، فكانت هذه العمليات تعطي الأولوية لحياة الطفل على حياة أمه.
في القرن الـ19، جاء التطوّر الطبّي ليُشير إلى إمكانية إنقاذ حياة الأم والطفل معاً أثناء العملية القيصرية. لكن جراحات البطن كانت مؤلمةً وخطرة للغاية، في عصرٍ سبق اختراع عقاقير التخدير والمضادات الحيوية.
وما زاد الأمر صعوبة هو ضرورة إتمام الجراحة بشقّ رحم المرأة يدوياً، أو باستخدام المقصّ، ولم تتمتع أي من هذه الوسائل بالسرعة الكافية لتجنيب الأم الألم أو إنقاذ حياة الطفل. فجاء اختراع المنشار الجنزيري لاحقاً، باعتباره بديلاً أكثر آدمية يُمكن استخدامه في الولادات القيصرية.

أول الأجهزة التي حلّت محل المقصّ في الولادة القيصرية
ابتكر الطبيبان الاسكتلنديان جون أيتكين وجيمس جيفراي بديلاً، كانا يأملان أن يكون أكثر أماناً خلال الولادات القيصرية في العام 1780. وبدلاً من قطع بطن المرأة، كانا يقطعان تجويف الحوض من أجل توسيع قناة الولادة وإخراج الطفل عن طريق المهبل.
ومع ذلك، لم يكن السكين الحاد سريعاً أو غير مؤلم بما يكفي لإجراء هذه الجراحة بشكلٍ آمن؛ مما دفع أيتكين وجيفراي إلى تصوّر شفرة نصلٍ دوار تستطيع قطع العظام والغضاريف سريعاً، ومن هنا وُلِدَ أول منشار جنزيري.
ووفق صحيفة The Sun البريطانية، كان المنشار الجنزيري الأصلي صغيراً بما يكفي ليلائم أيدي الأطباء في البداية، وكان أشبه بسكينٍ مُسنّن مربوط بمرفقٍ يدوي.
سرّعت الأداة الجديدة عملية توسيع قناة الأم أثناء الولادة، لكن استخدامها كان خطراً للغاية بالنسبة لغالبية الأطباء. لكن أيتكين وجيفراي لم يكونا المُبتكرين الوحيدين للمناشير الطبية في ذلك العصر.

فبعد نحو 30 عاماً، بدأ طفلٌ ألماني يُدعى برنارد هاين في إجراء التجارب على الأجهزة الطبية. وانحدر هاين من عائلةٍ طبية بامتياز؛ حيث كان عمّه يصنع الأطراف الصناعية وأجهزة تقويم العظام؛ لهذا قضى غالبية طفولته في تعلّم كيفية صنع مختلف أدوات تقويم العظام.
وركّز عمه على الجانب الفني لتقويم العظام، بينما درس هاين نفسه الطب، وتخصّص في جراحات تقويم العظام بعد تلقيه تدريباً جراحياً. وعثر حينها على طريقة للجمع بين تدريبه الطبي ومهاراته الفنية. وابتكر هاين مبضع العظام الجنزيري في العام 1830، ليصبح هذا المبضع بمثابة السلف المباشر للمنشار.
وكان مبضع العظام عبارةً عن أداة تُستخدم في تقطيع العظام، وتُشبه الإزميل، وتعمل يدوياً. لكن هاين أضاف جنزيراً إلى مبضعه المدعوم بمرفقٍ يدوي، ليصنع بذلك أداةً أكثر سرعة وفاعلية.
الاستخدامات الأصلية للمنشار
راعى هاين مختلف التطبيقات الطبية لاختراعه بكل حرص، ولهذا بدأ استخدامها في مختلف أنواع الجراحات. وأضاف وسائل وقاية على حواف الجنزير بهدف حماية الأنسجة المحيطة، وحتى يتمكن الجرّاحون من قطع الجمجمة من دون نشر شظايا العظام أو تدمير الأنسجة الرخوة.
وقد أدى هذا الاختراع إلى تحسينات هائلة على صعيد العمليات الطبية في القرن الـ19، والتي كانت تتطلب تقطيع العظام، مثل عمليات بتر الأطراف.

حينها اعتاد الأطباء على استخدام المطرقة والإزميل لبتر الأطراف، قبل اختراع مبضع العظام، أو كانوا يستخدمون منشاراً للبتر يتطلب حركات مستمرة ذهاباً وإياباً؛ لكن المنشار الجنزيري الطبي بسّط العملية وحسّن النتائج.
وبالتالي اكتسب مبضع العظام شعبيةً كبيرة. وفاز هاين بجائزةٍ مرموقة في فرنسا، كما حصل على دعوةٍ إلى روسيا من أجل عرض الأداة، ثم بدأت الشركات المصنّعة بفرنسا ونيويورك في تصنيع الأداة الجراحية الجديدة بكميات كبيرة.
وربما مثّل المنشار الجنزيري حلاً أفضل بمراحل من المطرقة والإزميل في حالات البتر، لكنه لم يكن أفضل حل لمشكلة ولادة الأطفال. ويعود الفضل في إنقاذ حياة المزيد من الأرواح خلال عملية الولادة إلى بيئات الجراحة المعقمة، والتخدير، وتوافر وصولٍ أكبر إلى الرعاية الطبية المتطورة.
وبحسب موقع History of Yesterday، فإنه في العام 1905 أدرك مخترعٌ أمريكي يُدعى صامويل بينز أن المنشار الجنزيري الطبي يمكنه تقطيع أشجار الخشب الأحمر أفضل من العظام.
فقدّم طلب براءة اختراع لأول منشارٍ جنزيري معروف بشكله المعاصر. وبعد أن حصل على براءة اختراعٍ للمنشار الكهربائي، انفجرت تطورات أخرى في جميع أنحاء الولايات المتحدة والعالم.
وبعد فترة وجيزة، أُنشئت معادلات المناشير الحديثة التي نفكر فيها عادةً. ولحسن الحظ، لم يدُم طويلاً عصر استخدام المناشير الجنزيرية في مساعدة النساء على النجاة من الولادة.





