الحرمان من الميراث.. أثرياء يتخذون خيارًا نادرًا

حول الخبر: يقول جان باسكال ابن مزارعي الحبوب إن "المال هو السم".
جان باسكال (الثاني من اليسار) قاد رئاسة مجموعة "أرشيمبو" بصرامة كبيرة وجعلها رائدة أوروبا في المنصات الخشبية (الصحافة الفرنسية)
جان باسكال (الثاني من اليسار) قاد رئاسة مجموعة "أرشيمبو" بصرامة كبيرة وجعلها رائدة أوروبا في المنصات الخشبية (الصحافة الفرنسية)

نشر في: الثلاثاء,10 مايو , 2022 4:16م

آخر تحديث: الإثنين,9 مايو , 2022 9:25م

قرر رائدا الأعمال جان باسكال وسيريل أو يان عدم توريث كل ثروتهما لأولادهما، حتى يتمكنا من إنفاقها على أعمال قريبة من قلبيهما، ويلقى هذا التوجه دعمًا من الأقلية أمام معارضة معظم مقترحات المرشحين للانتخابات الرئاسية الفرنسية.

وقالت الكاتبة ستيفاني هامر -في تقرير نشرته صحيفة “لوموند” (lemonde) الفرنسية- إن جان باسكال أرشيمبو ليس من النوع الذي يتظاهر أو يدّعي عكس ما يفكر فيه.

ففي الـ60 من عمره قاد جان باسكال رئاسة مجموعة “أرشيمبو” بصرامة كبيرة، علما أنه هو الذي جعل مشروع منشرة الأسرة الواقعة بالقرب من مدينة “نيور” الفرنسية تزدهر وجعلها رائدة أوروبا في المنصات الخشبية محققة 100 مليون يورو في المبيعات وتضم 450 موظفًا.

ويقول جان باسكال ابن مزارعي الحبوب إن “المال هو السم”، ويرتدي هذا الثري سروالا مخمليّا باهت اللون ويقود سيارة من طراز تسلا العلامة الوحيدة المرئية للثروة التي يمتلكها، ويتنقل بها على الطرق الوعرة قليلًا في مقاطعة بيرينيه معقل العائلة الذي يبعد ربع ساعة عن إقليم دو سيفر.

أن أفعل شيئًا يشبهني

وتوضح الكاتبة أنه على مدى وقت طويل كان هذا الأب المطلق هو صاحب السيادة على شركته، بصفته مساهما بأغلبية كبيرة بنسبة بلغت 75%، وقد اجتمع جان باسكال عام 2016 مع أبنائه الثلاثة للتحضير لمن سيخلفه في إدارة الشركة. وفي الوقت الذي تلقى العديد من عروض الاستحواذ من مجموعات أجنبية على وجه الخصوص، قال جان باسكال لأبنائه من دون مزيد من التوضيح “إما أن أبيع كل شيء وأذهب إلى جزر الباهاما وأورثكم يوما ما يكفي لعدم العمل على امتداد جيلين، لكنني لا أريد أن أفعل ذلك. وإما أن أفعل شيئا يشبهني، لمساعدة الإقليم”.

وتبيّن الكاتبة أن جان كالعادة قرّر بمفرده واختار أن يبيع جميع أسهمه بشكل نهائي وغير قابل للتصرف لمصلحة ما يسمى مؤسسة المساهمين، وهو نموذج لصندوق الوقف منتشر جدا في بلدان شمال أوروبا لكنه لا يزال غير متداول كثيرا في فرنسا حيث عادة ما تنتقل ثروات الأسرة من جيل إلى جيل آخر. ومن ثم، سيوجّه صندوق “أرشيمبو” للإنسان والغابات.

وتتابع الكاتبة قائلة إن رجل الأعمال نقل أمام كاتب عدل في عام 2020 نحو 25% من أسهمه إلى هذه المؤسسة، أي 12 مليون يورو، من أصل 40 مليون ينوي دفعها قبل وفاته، مشيرة إلى أن ابنه بيير لويس يعمل في مجال التربية، وابنته كلير مهندسة عمارة أسست مع أخيها بول شركته الناشئة في مجال تكنولوجيا المعلومات، وجميع أبنائه في الثلاثينيات من العمر، ويرتدون الجينز القديم كأنه علامة مميزة لأفراد العائلة، علما بأنه ليس بالأمر السيئ أو المعيب.

وتلفت الكاتبة إلى أن أولاد جان باسكال نشؤوا في منطقة ميلي، وتلقوا تعليمهم في المدارس الحكومية، واستحمّوا في النهر مع الأطفال المحليين، وعملوا واستقروا في القرى المجاورة مع أطفالهم، وقد ضحكت كلير البالغة من العمر 36 عامًا قائلة “كان أكبر مخاوف والدنا أننا لن نفعل شيئًا، وأن نكون متقاعسين”.

الوراثة والتفاوتات الاجتماعية

وتشير الكاتبة إلى أنه في مواجهة ثروة تقدّر بالملايين، لا تعدّ عائلة “أرشيمبو” الوحيدة التي تتساءل عن معنى الميراث، فقد لفت خبراء من مجلس التحليل الاقتصادي الفرنسي الانتباه إلى المسألة الضريبية الوحيدة التي تمكنت من الظهور في هذه الحملة الرئاسية الغريبة وهي عودة الميراث الذي أصبح اليوم يمثل 60% من الثروة الإجمالية للأسر الفرنسية، مقارنة بنسبة 35% عام 1970، وذلك يزيد على نحو خطير من عدم المساواة في المواليد.

وترى الكاتبة أن هذا الموضوع مثير للقلق لأنه لن يفيد إلا قلة من الشعب؛ فما يقرب من نصف السكان في فرنسا سيرثون أقل من 70 ألف يورو (لن يرث الثلث أي أحد)، مقارنة بأكثر من 500 ألف يورو لأغنى 10% من السكان، ويقترح مجلس التحليل الاقتصادي استخدام سلاح الضريبة لتصحيح هذا الظلم.

فضلا عن ذلك..

لا يعدّ مجلس التحليل الاقتصادي الفرنسي الجهة الوحيدة في هذه الأيام، التي تنصح بتعزيز ضريبة الميراث بشكل عاجل، إذ ناشدت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ثم اللجنة التي يرأسها الاقتصاديان جان تيرول وأوليفييه بلانشارد -أنشئت بناء على طلب الرئيس إيمانويل ماكرون- بتطبيق الأمر نفسه.

بعض الأشخاص يميلون إلى التخلي عن ثرواتهم التي صنعوها بأنفسهم ويشعرون بأن ترك الأموال للأولاد لن يفيدهم (شترستوك)

ثورة ثقافية صغيرة جارية

وتضيف الكاتبة قائلة إن بعض الفرنسيين يبدون مصمّمين على عدم نقل أي شيء إلى أقاربهم أو الثروة كاملة رغم أنهم لا يزالون رواد أعمال؛ وذلك من أجل استعادة شكل من أشكال العدالة الاجتماعية. وفي هذا الصدد، لاحظ أنطوان فاكارو المتخصص في الأعمال الخيرية ومؤسس شركة “فورس فور غود” الاستشارية أن فرنسا “تشهد مفارقة فرنسية تتشكل بشكل أكثر وضوحا، فالنفور من ترك أموال المرء للدولة قوي جدا لكن الرغبة في عدم نقل كل ميراث المرء إلى ورثته والتبرع به لقضية ما وإعطاء معنى لإرثه يزداد بالفعل في فرنسا”.

ونقلت الكاتبة عن ناتالي سوفانيت، التي عملت رئيسة قسم العمل الخيري الفردي في بنك “بي إن بي باريبا” مدة 8 سنوات، قولها إن المرء يميل أكثر إلى التخلي عن ثروته عندما يبني نفسه؛ “فغالبًا ما يكون هؤلاء الأشخاص قد صنعوا ثروتهم بأنفسهم ويشعرون بأن ترك كثير من الأموال للأولاد لن يساعدهم”، وتابعت “لدي عميل لديه اليوم عقار بقيمة 50 مليون يورو ولن يترك إلا جزءا صغيرا جدًّا منه، ويقول لنفسه “إذا تركت كل هذا للأولاد، فكيف سيثبتون أنهم مؤهلون؟”.

نظرة عن العالم

وتتحدث الكاتبة عن المليونير سيريل فو (50عامًا) الذي يقول “لم أكن أريد أن يوجّه هذا الثراء المفاجئ حياتي وحياة عائلتي. أردت أن أتوقف عن الادخار وسألت نفسي عما سأورثه لأولادي الثلاثة”. وأضاف مازحًا “ظننت أنني سأمنحهم نظرة عن العالم؛ زوجتي تجد هذا الأمر غريبا. لذلك، سيكون لكل واحد منهم شقة صغيرة”.

نشأ سيريل فو في ضواحي باريس، وترعرع على يد امرأة مطلقة، ودفع تكاليف دراسته بمفرده، وهو سعيد برؤية عائلته تشاركه ذوقه في الأشياء البسيطة، إذ يقول “ابني ذو الـ19 سنة لا يملك في جيبه سوى 35 يوروا مصروفه الشهري وهو غير آبه بذلك، كما أنه يرتدي ألبسة مستعملة. وحتى إننا نملك منزلا في ضاحية بيرش وبالتأكيد لا يتوفر على حوض سباحة”.

وأضافت الكاتبة أنه بدأ يعاني الآن من تحديات ما بعد النضج، وطوّر وعيًا بيئيًّا عميقا على حساب الآخرين. ولتنفيذ مشروعه، ولأنه يظن أن المؤسسة ستعيد للعالم سحره، أنشأ رجل الأعمال شركة مساهمة، بتدعيم من “فيرجيني ساغرز” المشاركة في تأسيس شركة “بروفيل”، التي تعدّ الشركة الفرنسية الوحيدة التي ترافق رواد الأعمال في هذا المجال، غير أنه يدرك أيضا أن حرمان أقربائه من الميراث يبقى عملًا صعبًا وله وزن ثقيل من الناحية النفسية.

وبمساعدة جلسات التحليل النفسي التي خضع لها ظل سيريل يتساءل مدة طويلة: لماذا يفعل ذلك أساسًا؟ وهل يسعى ليكون محبوبًا أو محط إعجاب؟

أحد أبنائي كان على حافة الانفجار

وتؤكد الكاتبة أن حرمان الأبناء من الميراث هو في الحقيقة تصرف يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وغالبًا ما يعدّه أحفاد هؤلاء الأثرياء أمرا قاسيا، فتنقل عن برونو بيروليس مؤسس “مكتب فالي” -علامة توزيع أدوات مكتبية- أنه في يناير/كانون الثاني 2019 وقع أمام زوجته وأبنائه الثلاثة وصية تنص على أنه بعد وفاته تحوّل جميع أسهمه التي تقدر بنحو 100 ألف يورو إلى صندوق وقفي يصبح مساهما في الشركة، وملزما بتمويل الأعمال الخيرية في قطاعي البيئة والتعليم.

غير أن هذا الرجل الستيني يستطرد ليقول “أدركت في تلك اللحظة أنني كنت أحرم أولادي من الميراث”، فقد بدا على ولديه وابنته الوحيدة -التي تعمل في الشركة وكانت تشغل منصب المدير العام لها في وقت ما- توتر كبير للتوقيع على وثيقة التنازل، وقال الوالد “أحد أبنائي كان على وشك الانفجار”.

وحسب الكاتب، فقد اعتقد برونو بيروليس الذي نشأ في باريس مع 5 إخوة وأخوات أن من حوله فسروا اختياره على أنه بادرة عدم ثقة، في حين قالت ابنته كريستيل “ملايين كثيرة، هذا لا يصدق، إنني أبلي بلاء حسنا”.

وفي الواقع، كانت زوجته جويل التي دافعت طوال سنوات عن الموارد البشرية في الشركة هي الأكثر تأثرا بهذا الاختيار، وعندما سُئِلَت عن خطوة زوجها هذه تهربت بشدة من الإجابة وقالت إنه من الجميل جدًّا أنه حقق هذا الحلم.

وقبل أن تستدرك بعد أن صمتت قليلا “مشاعري مختلطة ولم أفهم حقيقة؛ لقد كرسنا كثيرا من العمل لهذه الشركة وأعتقد أننا أسهمنا في المصلحة العامة. إضافة إلى ذلك، فقد جئت من عائلة متواضعة الحال، وكان هدفنا أن ينعم أطفالنا بحياة جيدة، ثم تبخر كل شيء، إنني مدهوشة كثيرًا من جرأته”.

الوصية.. الفضاء الأخير لتصفية الحسابات

واستمرت الكاتبة قائلة إن المؤسسات الخيرية التي تدعمها في كثير من الأحيان مكاتب استشارة متخصصة تستخدم تقنيات تسويق قوية لجذب الورثة ما دام المورّث حيًّا، وذلك للتغلب على تردد المتبرعين، “من الواضح أنها تدعو الناس إلى عدم توريث كل شيء لأبنائهم”.

وفي هذا الشأن، يوضح أليكسيس فانديفيفر، من وكالة “أدفينيطاس”، أن أهم الجمعيات تملك أقساما مخصصة لجمع التبرعات، ومع ذلك فهو يدرك تناقض مثل هذا النهج، وهو نفسه يعترف أن الارتباط بجمعية وليس بالعائلة يعدّ مثل إنزال عقوبة، وفي بعض الأحيان يكون المشروع الخيري ثانويًّا، وهذا ما يفسر أن يحظى المنتجع الصحي بجمع كثير من أموال الميراث؛ حيث يرغب كبار السن في معاقبة ورثتهم الذين لا يظهرون إلا وقت قراءة الوصية.

ويؤكد المحامي إمانويل رافاناس -كما تنقل الكاتبة- أن الوصية فضاء لتصفية الحسابات، وغالبًا ما يتخذ الأقارب إجراءات قانونية ضد حرمانهم من حقوقهم لمصلحة الأعمال الخيرية.

حرمان الأبناء من الميراث تصرف يؤدي إلى زعزعة الاستقرار وغالبًا ما يعدّه أحفاد الأثرياء أمرا قاسيا (بيكسلز)

شقيقتان في صراع

يختفي وراء الخطاب السياسي الذي تردّده فابيان بوتين (68 عامًا) وضع عائلي فيه كثير من الكراهية والوحشية، فبالطبع لم تتحدث فابيان، التي تستعد لتوريث ممتلكاتها لفرق منظمة السلام الأخضر، سوى عن التزامها البيئي القديم جدًّا، حسب ما قالت الكاتبة.

واستطردت الكاتبة قائلة:

إن فابيان تستحضر داخل شقتها إرادة عميقة؛ حيث تؤكد أن هذه الوصية التي كتبت في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول هي “في نظرنا عمل نضالي للغاية”، فلقد رأت سلوك قرود المكاك في جزيرة هوكايدو في اليابان، المنزعجة من الاحتباس الحراري، وانتقال الحيوانات البرية في السويد دائما إلى الشمال، وتقول إن كتابة وصيتها وحفظها لدى كاتب العدل يريحها ويهدئها، لكن ما تأخذ فابيان وقتًا في الاعتراف به هو أنها بتركها 95 ألف يورو من التأمين على الحياة لشركة السلام الأخضر تحرم أختها الصغرى وريثتها الوحيدة من ممتلكاتها، وقد كانت دائمًا في حالة حرب معها.

وتبيّن الكاتبة أن هذه الرغبة في عدم ترك أي أثر تتم صياغتها من قبل الموصين الذين لديهم ضمير بيئي عميق، فقد أجرت ماري إيف لولييه رئيسة جمع التبرعات في منظمة السلام الأخضر، الصيف الماضي، دراسة عن توقعات المانحين من المنظمات البيئية غير الحكومية؛ تقول فيها إن غالبيتهم لا يريدون أن يعرفوا ماذا سيفعل بميراثهم، وتتعجب من رغبتهم في عدم ذكر أسمائهم للجهة الممنوحة أو نقشها على لوحة، فهم يعتقدون أن جيلهم أضرّ بالكوكب بدرجة كافية ولا يرغبون في ترك أي أثر أو أثر على الأرض أو أي تأثير على البشرية أو الطبيعة؛ لذلك فشجرة الذاكرة، التي تحمل كل ورقة منها اسم أحد المتبرعين في المقر الرئيس للمنظمة، بدأت بالتلاشي.

وتشير الكاتبة إلى أن يان رولاند (68 عامًا) يشعر بأنه قام بما يتفق مع قيمه؛ ففي العام الماضي باع 35% من رأس مال شركته (Cetih) المتخصصة في نوافذ “بي في سي” لمصلحة مؤسسة المساهمين “سوبر بلوم”، ومنذ ذلك الحين لا يتحدث كثيرًا عن الأمر كي لا يظهر بمظهر “معطي الدروس” وتجنبا لإزعاج العائلة والجيران والأصدقاء الذين ليس لديهم مستوى العيش نفسه والذين عانوا أوقاتًا عصيبة.

وتوضح الكاتبة -في نهاية تقريرها- أن أبناء رولاند الثلاثة وافقوا على توقيع صك التنازل، ويعلل رولاند بهدوء تبرعه لمؤسسة “سوبربلوم” فيقول “لأنها تشارك في التعليم البديل، غير المتكيف مع الأداء والنخبوية ويساعد النساء في حالة عدم الاستقرار العاطفي والاقتصادي”.

وغالبًا ما يكون رولاند مذهولًا من ردود أفعال أقرانه، عندما يقدم وجهات نظره حول فكرة نقل الثروات إلى مؤسسة بدلًا من العائلة في غداء عمل، حيث يكون هناك أحيانًا من يجدون الأمر مصدرًا للإلهام، لكن “في معظم الأوقات هناك فراغ، ويتغير الموضوع، وذلك يعني أن الفكرة لا تزال غير رائجة”.

المصدر: لوموند ـ التأمل

شارك الآخرين:

إرسال
شارك
غرّد

اختيار المحرر.. فيديوهات قد تعجبك

قد يُعجبك أيضًا:

تابعنا: