يختمونه ليلة 27 رمضان في هذه الدولة.. ما سر تعلقهم بصحيح البخاري؟

حول الخبر: بمرور الزمن أصبحت تلك الفعالية العلمية الروحية "سنة حميدة".
أئمة يطلبون نقل فعالية صحيح البخاري إلى جامع الجزائر الأعظم
أئمة يطلبون نقل فعالية صحيح البخاري إلى جامع الجزائر الأعظم

نشر في: الأربعاء,27 أبريل , 2022 9:38ص

آخر تحديث: الأربعاء,27 أبريل , 2022 9:38ص

دأب الجزائريون منذ قرون على قراءة “صحيح البخاري” سنويا عبر مساجد البلاد، خاصة العتيقة منها، حيث تنطلق مع بداية شهر رجب من كل سنة، على أن تختتم مع ليلة القدر التي يعتقد أنها ليلة الـ 27 من شهر رمضان المعظم.

وبمرور الزمن أصبحت تلك الفعالية العلمية الروحية “سنة حميدة” تحظى برعاية السلطات الحكومية، ممثلة في وزارة الشؤون الدينية والأوقاف التي تشرف سنويا على انطلاقتها ومرافقتها إلى الختام ببروتوكولات رسمية.

شاهد على قراءة البخاري

وبشوق كبير إلى ماض روحاني، يستذكر الشيخ علي عية الإمام المعروف، في الجامع الكبير بالجزائر العاصمة منذ 1973، الاهتمام الخاص الذي حظيت به قراءة صحيح البخاري عن غيرها من النشاطات الدينية خلال عقدي الستينيات والسبعينيات.

وفي سرده لذكرياته، قال عية:

إن قراء الصحيح تحلو آنذاك بهمة عالية، وكانوا في الأصل من “الحزابة” المداومين على قراءة الورد الحزبي القرآني جماعيا بالمساجد.

الشيخ علي عيّة إمام شاهد على مسيرة نصف قرن من قراءة صحيح البخاري في الجزائر (الجزيرة)

الشيخ عية شاهد على مسيرة نصف قرن من قراءة صحيح البخاري بالجزائر

وبنبرة غالبها الحنين، راح الشيخ يستحضر الأجواء الروحانية، حيث كان القراء يغتسلون ويتطهرون، ثم يتزينون بأحسن الثياب، مرتدين الهندام الجزائري الأصيل، على عادة المسلمين في أعيادهم الدينية.

ولم تختلف طقوس رواد “المجالس البخارية” عن الأئمة، حيث كانوا يستحضرون نية التعبد، ويقبلون عليها بشغف بين صلاتي الظهر والعصر، حيث ينصتون إليها في سكينة وخشوع، على حد وصفه.

ونسجت تلك المجالس رابطة أخوة قوية مع أبناء الجالية العربية، من مصر وفلسطين وسوريا والعراق، حيث واظبوا على مشاركة حلقات البخاري، بحكم وجودهم في الجزائر منتدبين للتعليم، في إطار حركة التعريب.

لحن جزائري مغاربي

وكشف لنا الشيخ عية أن القراءة في زمنه كانت بلحن جزائري مغاربي، مختلط أحيانا بالنغم الأندلسي، مع مراعاة أحكام المدود وحالات الوقف، تيمنا بقراءة القرآن الكريم، ورفع الأذان، على الطريقة الجزائرية الموروثة منذ قرون.

ويتوقف القارئ أحيانا لشرح المعاني الصعبة على السريع، ثم يكمل قراءته بالتناوب في العادة مع 4 مشايخ، يتسلمون الدور عن بعضهم عند الانتقال من باب الى باب آخر، وفق التقسيم المشهور في كتاب البخاري.

وتحضر في ذاكرة الرجل أسماء لامعة من شيوخ الجزائر، كانوا من أعلام مجالس البخاري، على غرار الشيوخ:

عبد الرحمان شيبان (وزير للشؤون الدينية) وبوعلام باقي (وزير بنفس القطاع) ومحمد شارف، وعبد القادر بوقفطان، والشيخ البليدي وعمر العاصمي وآخرين.

ومن حرص الجزائريين عليها، فقد خصصوا منحة مالية لهؤلاء القراء من أموال الأوقاف وتبرعات المحسنين، لأن الأئمة وقتها لم يكونوا منتسبين لسلك الوظيفة العامة، بحسب شهادة المتحدث.

ولصيانة هذا الموروث الديني، ناشد الشيخ عية الرئيس عبد المجيد تبون لأجل نقل هذه الفعالية إلى فضاء “جامع الجزائر الأعظم” (ثالث أكبر جامع في العالم) على أن يقوم عليها مشايخ كبار من مراجع البلد، مع تسخير الإعلام الثقيل لبثها مباشرة.

تعاقبت الأجيال.. والقراءة واحدة

ورغم مرور الأزمان وتعاقب الأجيال، فإن الجزائريين متشبثون بميراث الآباء والأجداد، حيث أكد مراد قروج، الإمام بمحافظة سعيدة (490 كلم غرب العاصمة) أن مسجدها العتيق ظل منذ تأسيسه منارة لقراءة صحيح البخاري وشرحه.

وقال قروج:

“إذا دخل شهر رجب تجدد مساجدنا العهد مع سنة الآباء، حيث تتلى أحاديث البخاري ما بين الآذان إلى وقت إقامة الصلاة، مما يعكس ذاك الارتباط الروحي القوي للمجتمع بأصح كتاب بعد كتاب الله”.

ويقترح إحياء هذا الموروث بنفس جديد، يمنحه زخما ونفعا أكبر، خاصة بين شباب اليوم، من جيل التكنولوجيا والمعلوماتية، والمعتكف على شبكات التواصل الاجتماعي، باستغلال هذه الفضاءات لبث قراءة كتاب البخاري افتراضيا.

وأرجع المتحدث تعلق الجزائريين، شعبيا ورسميا، بقراءة صحيح البخاري إلى أن “الله حباهم بأول عالم شارح لصحيح البخاري، ألا وهو أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي المسيلي التلمساني”.

من هو أحمد بن نصر الداودي الجزائري؟

ويذكر الباحث صالح فركوس، في الجزء الأول من كتابه “تاريخ الثقافة الجزائرية من العهد الفينيقي إلى غاية الاستقلال” أن العالم أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي المسيلي التلمساني، عاش بطرابلس (ليبيا) مدة، وألف فيها كتابه “شرح الموطأ” ثم انتقل الى تلمسان (غرب الجزائر) إلى أن توفي بها سنة 402 هجرية.

ويصفه المؤرخ الداودي بأنه إمام فقيه محدث ومؤلف مجيد، له حظ من علوم اللسان والنظر، كان يأخذ علومه عن الكتب غالبا، ولم يعتمد على إمام مشهور.

كما أخذ عنه الفقه وعلوم الدين: أبو عبد الله البوني وأبو بكر بن أبي زيد القيرواني وغيرهما، وقال عنه القاضي عياض إنه “من أئمة المالكية بالمغرب، والمتسعين في العلم المجيدين للتأليف”.

أما عن مؤلفات الإمام الداودي، فأبرزها كتاب “النامي” وهو شرح لموطأ الإمام مالك، و”الواعي في الفقه”، و”الإيضاح في الرد على القدرية”، وكذا “النصيحة في شرح البخاري”، و”الأصول”، و”تفسير القرآن الكريم”، وكتاب “الأموال”.

وأخذ العالم الشهير ابن حجر العسقلاني عن شيوخه “شرح الموطأ” و”شرح البخاري” لإمام الجزائر، وذكر ذلك في معجمه، كما نقل عنه الكثير من أقواله في كتابه “فتح الباري” إما مباشرة أو عن طريق ابن التين، واستجازه أيضا العلامة المالكي ابن عبد البر، بحسب ما يورده المحقق بالتاريخ الإسلامي، بعلي الزوبير.

ونقل عنه الفقيه المالكي العلامة أبو بكر بن العربي بعض شروحاته، ومثله فعل القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم، كما استدل العلماء بالكثير من فتاويه، على غرار العقباني التلمساني والونشريسي والشاطبي في موافقاته والمازري.

انتصار في الحروب ورفع الكروب

وعن رمزية صحيح البخاري في الوعي الشعبي الجزائري، يرى بومدين بوزيد، الأمين العام للمجلس الإسلامي الأعلى، أن الاحتفاء بصحيح البخاري احتفاء بالرسول صلى الله عليه وسلم، حيث “صار له حضور في المخيلة الشعبية كمعرفة وللتبرك”.

وقال في تصريح للجزيرة نت إن تخليد المصنفات والأشعار والكتب مسألة تاريخية ظهرت منذ القرن العاشر للهجرة، وبدأت تترسخ في الذاكرة الشعبية، حتى أن العائلات أطلقت اسم البخاري على أبنائها تبركا وأملا في أن يصيروا مثله.

يعتقد بومدين بوزيد أن صحيح البخاري صار له حضور عميق في المخيلة الشعبية (الجزيرة).

بوزيد يعتقد أن صحيح البخاري صار له حضور عميق بالمخيلة الشعبية

ويذكر ابن حمادوش في رحلته (القرن الثامن عشر) احتفاء الجزائريين بقراءة صحيح البخاري خلال العهد العثماني، والذي استمر إلى اليوم بالجامع الكبير بالجزائر العاصمة، حيث كان يقرأ بصوت جماعي على يد علماء أجلاء، بعد رش الحائط بماء الورد، مما جعل له جانبا من التبرك.

وأوضح بوزيد، الباحث في الفلسفة الإسلامية، أن صحيح البخاري رافق الجيوش في القرنين الأخيرين، إذ كان يتلى أثناء المسيرة الحربية أو في الشدائد، للتوسل إلى الله بزوالها، حتى أصبح رمزا للانتصار.

وذكر المتحدث أن الأمير عبد القادر حمل معه دوما كتاب البخاري في مقاومته للاحتلال الفرنسي (1830-1847) وعلق في هوامشه، ولا تزال نسخته الشخصية محفوظة.

كما أنشأ سلطان مراكش، مولاي إسماعيل العلوي (1672-1727) فرقة مهمتها قراءة صحيح البخاري بالجيش والحروب، سماها “جيش البخاري أو عبيده” ويعود تأسيسه -عند آخرين- لعهد الدولة السعدية بالمغرب (1510-1658) وفق الباحث بومدين.

واعتبر تمسك الجزائريين، حاضرا ومستقبلا، بهذا التقليد في قراءة صحيح البخاري حفاظا على الخصوصية، كما أنه جزء من التراث ويندرج ضمن المجال السياحي والثقافي.

المصدر: الجزيرة ـ التأمل

قد يُعجبك أيضًا:

تابعنا:

زوارنا يتصفحون الآن | الأربعاء,27 أبريل