من الوهلة الأولى عند رؤيتها، تبدو لوحة “السفراء” أو (The Ambassadors) للفنان الألماني هانز هولباين الأصغر، وكأنها صورة فوتوغرافية إلى حدٍ ما تعود لشخصيتين من القرن الـ 16.
و”هولباين الأصغر” فنان كاثوليكي ألماني ورسام رسمي لملك إنجلترا هنري الثامن، رسم أكثر من 100 صورة التقطت التعبيرات الفريدة لشخصياتها الرئيسية، ومع ذلك تحمل لوحة “السفراء” مكانة استثنائية بين لوحاته، وذلك لسر تم تضمينه في الرسمة لا يراه المتفرّج إلا من زاوية محددة.
أرشيفية
فترة مُربكة
اللوحة الأكثر شهرة لهولباين الذي عاش حياته الفنية بأكملها في إنجلترا، تستعصي على التفسير المباشر، لأنها تحتوي على تفاصيل حياة ثابتة وبورتريه لشخصين بالحجم الحقيقي تقريباً، علاوة على “موت سري” مُخبأ في إحدى زوايا اللوحة.
يتم فحص اللوحة، المرسومة منذ عام 1533، من قِبَل مئات المؤرخين. لأن الصورة المزدوجة، المعروضة في المعرض الوطني بلندن National Gallery، لغز يبدو من خلاله أن كل التفاصيل توحي بمعانٍ متعددة.
ولبدء استيعاب هذا العمل، يجب أولاً فهم الأبعاد السياسية التي أحاطت بحياة هولباين، وسيرته الذاتية المعقدة.
رسم هولباين “السفراء” عام 1533. وفي نفس العام، تشاجر الملك هنري الثامن مع البابا بشأن رفض الكنيسة الكاثوليكية منحه الطلاق من زوجته الأولى.
تزوج هنري من “آن بولين” على أي حال، وكان انفصاله عن الملكة إليزابيث الأولى شائكاً، وبعد عام واحد فقط، انفصل الملك عن روما وأقام نفسه على رأس كنيسة إنجلترا. وألقى ذلك بالكثير من اللوم على بولين باعتبارها “سحرت” هنري، وتسببت في الانقسام.
وقبل تعيينه في بلاط الملك، كان هولباين قد اكتسب شهرة في موطنه ألمانيا من رسم اللوحات الدينية. أي حتى وصوله إنجلترا، لم يكن قد انغمس في فن البورتريه العلماني، وهو شكل من الرسم الذي ظهر في عصر النهضة.
لذلك فتح انفصال هنري عن الكنيسة الكاثوليكية الباب أمام الإصلاح والفكر الإنساني لدخول إنجلترا، مما تترجم في تجديد وصل لمستويات عديدة، بحسب موقع “بيج ثينك” (Big Think) الثقافي.
السفراء
هذا الصراع تم تجسيده بشكل كبير في لوحة السفراء للفنان الألماني. فهي تُجسد السفير الفرنسي لدى إنجلترا، جان دي دينتفيل، منتفخًا في معطف فرو من الحرير والمخمل والوشق على اليسار، بعد أن تأنق وطلب اللوحة بقياسات ضخمة وتفاصيل متقنة لكي يعلقها في قصره.
وكان جزء من عمل دينتفيل هو تقديم تقارير إلى فرنسا الكاثوليكية بشأن ما يجري بالمحكمة الإنجليزية مع الكنيسة.
وبحسب موقع “أرتستور” (Artstor) للفن، كتب السفير لعائلته رسالة في ذلك العام تقول “لقد كنت، وما زلت، مرهقاً جداً.. أنا السفير الأكثر حزناً وتعباً في العالم”.
بينما على الجانب الأيمن من اللوحة صديقه ذو الثياب المعتدلة جورج دي سيلف، وهو رجل دين ودبلوماسي مؤقت بإنجلترا، قضى معظم حياته المهنية في محاولة عبثية لوقف تيار الإصلاح اللوثري وإعادة توحيد الكنيسة الكاثوليكية.
ونتيجة لذلك، وجد هذان السفيران نفسيهما في موقف لا حول لهما فيه، وهما يشهدان أحداثًا لم يكن بمقدورهما التأثير فيها بأي شكل.
ومع ذلك، تمكنت اللوحة من تعويض محنتيهما، فجسدت مفهوماً واحداً: عصر النهضة وأهمية الإنسان كمركز كلٍ من العوالم الأرضية والسماوية. في ظل هذا النطاق، يعكس كل عنصر في اللوحة سردا موجزا للإنسانية الحديثة والموت.
وهنا يأتي سر اللوحة: الموت السري المُخبأ في أسفلها.
الموت يتربص
قبل قرون طويلة من تطوير التصميمات ثلاثية الأبعاد، استطاع رسامو عصر النهضة جذب جمهورهم للنظر إلى القطع من زوايا جديدة من خلال اللعب بمنظور اللوحة بالكامل. وأحد أشهر الأمثلة على هذه التقنية هو لوحة “السفراء”.
وبحسب موقع “أرتسي” (Artsy) للفن، فإن النظرية اللاتينية في العصور الوسطى ركزت على فناء الإنسان كحقيقة لا مفر منها وكوسيلة لحث الناس على رفض الغرور والأفراح التي لا تدم طويلاً من الخيرات الأرضية.
ونظراً لتأثُّر الرسام بالفن الكنسي الذي لطالما مارسه في ألمانيا، كانت الجمجمة المخفية هنا في طرف اللوحة السفلي بمثابة رمز غير مرئي لحتمية الموت التي تتربص بكل تلك الحياة وتفاصيلها المرسومة على اللوحة الضخمة المجسدة للحياة.
وقد تبدو الجمجمة علامة مشؤومة يتم وضعها بين شابين يرتديان ملابس مهندمة وحولهما دلائل للترقي بمراتب الحياة، لكن على ما يبدو كان دينتفيل نفسه، الذي كلف الرسام باللوحة، معجباً بالرمز اللاتيني للموت ويُدعى “تذكر أنك ستموت” (Memento Mori).
لذلك، فهي كانت تذكيرا بالفناء الذي لا مفر منه للإنسان، لكن تشويهها أيضا يوحي بقراءات رمزية أخرى. فهي غير مرئية في اللوحة إلا من زاوية محددة.
وقد يرجع حجب الجمجمة لتوصيل فكرة مجازية أن الموت مركز العالم، لأنها تغطي بشكل حرفي الدائرة الوسطى على نمط الأرضية تحت السفيرين.
وعلاوة على ذلك، تلفت تجربة الخدعة البصرية بهذه الطريقة النظر إلى أن الرؤية البشرية محدودة وقاصرة، وهو ما يجبر المشاهدين على التساؤل عن مكانهم الحقيقي من العالم.
الحياة باقية
ومع ذلك، في الزاوية اليسرى العلوية، خلف الستارة الخضراء، خبأ الفنان أيضا رمزا للمسيح في وضعه الأيقوني. ويعتقد بعض مؤرخي الفن أن هذا “النقش” مرتبط بجمجمة الموت للتلميح إلى أن هناك ما هو أكثر من الموت، بمعنى الحياة الآخرة. كما يُعتقد أن الأيقونة المخفية تمثل لتقسيم الكنيسة.
وقد صُممت اللوحة الزيتية على خشب البلوط بأحجام قياسية، وهي معروضة لليوم بالمتحف الوطني في لندن منذ عام 1890، وتُعد إحدى أكثر اللوحات قيمة عالميا.
المصدر: مواقع إلكترونية ـ التأمل