عندما فُرض الحجر الصحي على ولاية نيويورك للمرة الأولى للحد من انتشار فيروس كورونا، نشر أندرو كومو، حاكم الولاية، تغريدة على موقع تويتر قال فيها:
“بلغت الكثافة السكانية في مدينة نيويورك حدا مدمرا، يتعين معه اتخاذ خطوات لحل هذه المشكلة الآن قبل الغد. وينبغي أن تضع مدينة نيويورك خطة فورية للحد من الكثافة السكانية”.
وتواصلت المخاوف والدعوات للحد من الكثافة السكانية في المدن. وأشارت تقارير إلى حالات نزوح جماعي محتملة من المراكز الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية إلى المناطق الريفية والضواحي خوفا من الإصابة بفيروس كورونا. وأشار استطلاع للرأي أجراه المجلس الدولي لمراكز التسوق في مايو/أيار الماضي إلى أن 27 في المئة من البالغين في الولايات المتحدة و43 في المئة من أبناء جيل الألفية من مواليد الفترة بين عامي 1981 و1996، يفكرون في الانتقال من المدن بسبب وباء كورونا.
لكن الدراسات الأخيرة..
أثبتت أن الكثافة السكانية في المدن لا تضاعف مخاطر انتشار الأوبئة كما يظن الكثيرون، إذ تشير البيانات التي جمعها البنك الدولي من 284 مدينة صينية إلى أن الكثافة السكانية المرتفعة لا تعرقل جهود احتواء فيروس كورونا. إذ كانت حالات الإصابة المؤكدة بالفيروس المسجلة في المدن ذات الكثافة السكانية العالية، مثل شنغهاي وبكين وشنجن، بين كل 10,000 شخص، أقل مقارنة بالمدن ذات الكثافة السكانية المنخفضة.
ونفت دراسة وجود علاقة بين الكثافة السكانية في 36 مدينة حول العالم (قياسا بعدد السكان لكل كيلومتر مربع) وبين معدلات الإصابة بكوفيد-19 أو الوفاة جراء الإصابة بالفيروس. وأشارت دراسة أجريت على 913 مقاطعة في الولايات المتحدة إلى أن سلوكيات السكان أكثر تأثيرا على معدلات الإصابة بكوفيد-19 من كثافة السكان.

وتقول شيما حميدي، الأستاذة المساعدة بكلية بلومبيرغ للصحة العامة بجامعة جونز هوبكينز: “اكتشفنا أن الناس أكثر حذرا من مخاطر الإصابة بالعدوى في المناطق المزدحمة، ومن ثم أكثر التزاما بالتدابير الاحترازية”.
وخلصت أبحاثها إلى أن..
سكان المناطق المكتظة بالسكان بشكل عام أكثر حذرا وحرصا على اتباع نصائح التباعد الاجتماعي وتفادي المناطق المزدحمة والبقاء في المنازل، مقارنة بنظرائهم في المناطق الأقل ازدحاما. ولهذا كانت معدلات الإصابة منخفضة نسبيا في المناطق الأشد اكتظاظا بالسكان، مثل سنغافورة وهونغ كونغ وطوكيو وسول.
ولا شك أن هناك عوامل أخرى تؤثر على معدلات الإصابة، مثل التأثير غير المتناسب للفيروس على الأقليات العرقية، لكن يبدو أن الأبحاث تؤكد أن الكثافة السكانية لا علاقة لها بمعدل انتشار العدوى.
ويقول سامح وهبة، المدير العالمي للتنمية العمرانية وإدارة مخاطر الكوارث والصمود وممارسات الأراضي: “إن العبرة ليست بالكثافة السكانية، بل بكيفية إدارتها”.
ويضرب وهبة مثالا على ذلك بمدينتي مومباي ومانهاتن، اللتين لديهما نفس الكثافة السكانية تقريبا، لكن مساحة الأراضي المقام عليها مبان – المساحة الطابقية – في مانهاتن أكبر منها في مومباي بأربعة أضعاف.
ويقول وهبة:
“المساحة المتاحة لكل شخص للعزلة الذاتية في مومباي، تعادل ربع المساحة المتاحة لنظيره في مانهاتن، ولهذا يعيش الناس في مومباي في مساكن أكثر ازدحاما، رغم تقارب الكثافة السكانية بين المدينتين”.
وتقول ديبتي أدلاخا، الأستاذة المساعدة في التخطيط البيئي بجامعة كوينز ببلفاست: “ترتفع مخاطر انتقال العدوى في المساحات المغلقة والمزدحمة، مثل الحانات ومصانع تعبئة اللحوم والمخازن الملحقة بالمصانع، ودور الرعاية والسجون وسفن الرحلات البحرية”.

وقد ثبت أن الكثافة السكانية لها فوائد صحية وبيئية عديدة مدهشة..
فقد خلصت دراسة إلى أن متوسط العمر المتوقع عند الولادة أعلى بنحو عامين ونصف في المدن ذات الكثافة السكانية العالية مقارنة بالضواحي الواسعة ذات الكثافة السكانية المنخفضة. إذ يتمتع سكان هونغ كونغ، التي تعد واحدة من المدن الأكثر اكتظاظا بالسكان على وجه الأرض، بأعلى متوسط عمر متوقع في العالم.
وقد يعزى ذلك إلى أنماط الحياة في المدن. وتقول حميدي:
“إن سكان المناطق المزدحمة أكثر حرصا على ممارسة الأنشطة البدنية، لأن الكثافة السكانية تتيح لنا فرص عديدة لنكون نشطين بدنيا، مثل ممارسة المشي وركوب الدراجات والجري بدلا من قيادة السيارات. وربطت دراسات بين التوسع العمراني والتشتت السكاني في الضواحي وبين ارتفاع معدلات الإصابة بالسمنة وداء السكري وأمراض القلب والأوعية الدموية، وكل ذلك بسبب توزيع المباني على مساحات واسعة وبُعد المسافات”.
وتتوفر في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية في الغالب خدمات صحية أفضل ومرافق أكثر تطورا وخدمات أكثر تخصصا، فضلا عن أن الاستجابة لحالات الطوارئ في المناطق المزدحمة أسرع منها في المناطق منخفضة الكثافة السكانية. وأشارت دراسة إلى أن سكان الضواحي ذات الكثافة السكانية المنخفضة، أكثر عرضة للإصابة أو الموت جراء حوادث السيارات من نظرائهم في المناطق المزدحمة بثلاث مرات.
وخلصت دراسة أجرتها جامعة أكسفورد وجامعة هونغ كونغ على 22 مدينة بريطانية إلى أن معدلات السمنة كانت أكثر انخفاضا بين سكان المناطق الأكثر ازدحاما بالسكان مقارنة بالمناطق التي تتوزع فيها المنازل على مساحات واسعة.
وهذا يرجع إلى نزوع سكان المناطق المزدحمة في وسط المدن إلى الحركة وقلة اعتمادهم على السيارات في تنقلاتهم. ويقول كريس ويبستر، أستاذ التخطيط العمراني واقتصادات التنمية بجامعة هونغ كونغ: “إن المناطق ذات الكثافة السكانية الأعلى تتوفر فيها في الغالب المواصلات العامة، ويتطلب ركوب المواصلات العامة دائما المشي”.
وتلفت لايلا ماكاي، مديرة مركز التصميم العمراني والصحة النفسية، إلى مزايا أخرى للسكن في المدن المزدحمة، وهي أن الشوارع النابضة بالحيوية تتيح فرصا للتفاعل الاجتماعي الإيجابي وتحد من العزلة.
ويقول وهبة إن مزايا العيش في المدن لا تضاهى، بدءا من القرب من العمل وتوفر وسائل الرفاهية وجودة العيش وحتى التنوع الثقافي.
وترى شيما حميدي..
أن الانتقال إلى منطقة في قلب المدينة يتيح الفرصة لممارسة رياضة المشي أو ركوب الدراجة أو الجري واستخدام المواصلات العامة ووجود متاجر مواد غذائية ومطاعم ومقاهي على بعد خمس دقائق سيرا.
غير أن تحقق هذه المزايا في المدن المزدحمة مرهون بالتخطيط العمراني الجيد والبنية التحتية القوية وتوفر المساحات العامة، وإلا قد تتفاقم مساوئ العيش في المدن، من الازدحام والتلوث ومعدل الجريمة والعنف، حتى تخرج عن السيطرة.

ويقول وهبة:
“إذا عجزت البلديات عن تخطيط الأحياء وتوفير الخدمات، ستظهر مشكلة التوسع العمراني العشوائي، إذ يتركز السكان في أزقة أو يستولون على أراض بوضع اليد. فالكثافة السكانية تصبح مضرة في حالة غياب الإسكان الملائم والبنية التحتية اللائقة والتخطيط ونقص المساحات العامة ووسائل الراحة والرفاهية”.
ويؤثر تفاوت مستويات الدخول على جودة حياة السكان في المدن وصحتهم. فانخفاض الدخل يؤثر على نوعية النظام الغذائي، وتفتقر الأحياء الفقيرة في الغالب إلى المساحات الخضراء ووسائل الراحة، وترتفع بين سكانها معدلات الإصابة بالأمراض المزمنة، كما يفتقر السكان للتأمين الصحي. وتعيش الأسر الأقل دخلا في الغالب في وحدات سكنية مزدحمة، قد تجعل السكان أكثر عرضة لانتشار الأمراض المعدية مثل كوفيد-19. وأشارت دراسات إلى أن معدلات الوفيات في المناطق الفقيرة أعلى منها في المناطق الأكثر ثراء بمقدار الضعف.
وعلى الرغم من أن معدلات الإصابة بكوفيد-19 في سنغافورة كانت منخفضة بشكل عام، فإن غالبية الحالات المسجلة كانت في مهاجع العمال المهاجرين التي كانت تضم 20 عاملا في الغرفة الواحدة.
وتمثل تكاليف الإسكان أحد تحديات العيش في المدن المزدحمة. وتقول حميدي: “الضرائب على العقار والإيجارات الشهرية أعلى في الغالب في المدن، فضلا عن أن الوحدات السكنية أصغر نسبيا في المدن مقارنة بالضواحي”.
ومع ذلك، تقول إيفا لي، التي تعمل في القطاع المالي، إنها لا تخطط للانتقال من المدينة رغم أنها كانت أشد تضررا من الوباء ومن الاضطرابات السياسية. وتبرر ذلك بالقول: “معظم الأشياء التي أحتاجها على مرمى حجر من منزلي. أنا أكره العيش في مكان أضطر فيه أن أقود سيارتي للحصول على منتجات البقالة”.
وتأمل إيفا أن يسهم الوباء في توجيه المزيد من الاهتمام إلى المناطق المزدحمة التي يعيش فيها الناس في غرف ضيقة أو أقفاص، كونها تمثل بؤرة لانتشار الأمراض.
وبغض النظر عن مزايا وعيوب المدن، فإن الكثيرين أعادوا النظر في أوضاعهم المعيشية في أعقاب الوباء. لكن كيف سيؤثر ذلك على مستقبل المدن؟
يقول ويبستر:
“من المستبعد أن تفقد المدن الكبرى جاذبيتها. فالمدن هي المرادف للتنمية الاقتصادية والصحة والثراء الثقافي، كما يرتبط الازدهار ارتباطا وثيقا بالتجمعات السكانية. فكلما زاد عدد الناس في البلدة أو المدينة، زادت جودة الخدمات الثقافية والترفيهية والرعاية الصحية وغيرها”.