جورج ميليس.. ساحر فقأ عين القمر وأسس سينما الخيال العلمي

حول الخبر: أنتج جورج ميليس فيلم "القصر المسكون"، وعرض في أقل من 4 دقائق مشهدًا لوطواط طائر يتحول إلى ساحر، ثم يستحضر وعاء ضخمًا من الفراغ
الخدع السينمائية التي وضع جورج ميليس أسسها في فيلم رحلة إلى القمر
الخدع السينمائية التي وضع جورج ميليس أسسها في فيلم رحلة إلى القمر

نشر في: الجمعة,22 يناير , 2021 5:17م

آخر تحديث: الجمعة,22 يناير , 2021 9:04ص

بدأت “أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة” الأميركية منح جائزة “أوسكار” للمؤثرات البصرية الخاصة منذ عام 1938، لسوء الحظ ربما تأخرت هذه الجائزة عشرات السنين، ولم يحظ بها ساحر المؤثرات البصرية الخاصة، وأحد روادها جورج ميليس، الذي توفي قبل شهور من حفل توزيع جوائز ذلك العام، والذي تحلُ اليوم ذكرى وفاته الـ83.

من تخزين الواقع إلى صنع الخيال

حين عرض الأخوان أوغست ولويس لوميير عام 1896 فيلمهما الوثائقي القصير للحظة دخول قطار إلى محطة “لا سيوتا”، لم تكن صافرة القطار تدوي في قاعة العرض؛ بل كانت أنغام لطيفة هادئة تخرج من صندوق بيانو وضع بالقرب من الجمهور، ورغم ذلك هرع المتفرجون بعيدا عن الشاشة خوفا من أن يدهسهم الوحش الحديدي القادم مسرعا. هكذا كان سحر الصورة المتحركة على الشاشة البيضاء؛ حيلة لم يعرف الجمهور أسرارها خطفت أبصارهم، ثم أثارت فزعهم قبل أن يطمئنهم صناع الفيلم بملامسة الشاشة.

لم يكن عمل الأخوين لوميير سوى توثيق لحدث اعتيادي، وعرض للصورة المتحركة، إذ عملوا على تصوير وتخزين لقطات حية لمشاهد يومية عادية، مثل؛ خروج عمال من مصنع، أو وصول قطار لمحطة، أو بستاني يجز الحشائش؛ لكن ساحرا آخر تجاوز حدود التوثيق الواقعي ليصنع سينما ساحرة قائمة على الخيال الروائي، هو الفرنسي جورج ميليس، صانع الأفلام منذ 1896 وحتى 1913.

مدير نهارًا.. مخادع ليلًا

في نهايات القرن الـ19، كانت الثورة الصناعية في أوجها، معدات جديدة تُبتكر يوما بعد يوم، التروس تتشكل والآلات تتركب وتتحرك، فنون تتعثر ويهجرها جمهورها، بينما فنون جديدة تخرج إلى النور. وكانت الحيل السحرية من هذه الفنون المتعثرة في طريقها إلى الاندثار، فألعاب الحواة والخدع البصرية المكررة والمعتادة لم تفلح في جذب انتباه الجمهور الأوروبي إلى عروض السحر في المسارح الفرنسية، في تلك الأثناء كان جورج ميليس شابا في منتصف العشرينيات، يدير مع أخويه مصنع أحذية نهارا، ويتعلم حيل السحر المسرحي بقية ساعات اليوم، حتى احترفها وعرض بعضا من خدعه أمام الجمهور.

حتى جاء عام 1888..

ليخوض وهو بعمر 27 عاما مخاطرة جديدة بحثا عن شغفه؛ إذ أنفق نصيبه من ميراث أبيه في شراء وتجهيز مسرح لعروض الخدع السحرية، وبدأ يطوّر من حيله وألعابه حتى وصلت إلى 30 حيلة جديدة خلال 9 سنوات، إلى جانب ذلك كان يرسم الكاريكاتير السياسي لجريدة فرنسية حديثة الإصدار.

استوديو ميليس الزجاجي

تجربة مسرحية لصناعة الأفلام

مع بدايات عهد السينما لم تكن قواعد الفن السينمائي قد وضعت بعد، وأيضا لم تكن التخصصات الفنية قد ظهرت، من يستطيع فعل شيء ما كان يفعله، وهو ما خاضه جورج ميليس حين صار بعمر 35 عاما، كان يملك خبرات الإدارة ومهارات الحواة والخدع البصرية وموهبة الرسم والتشكيل الفني، وهو ما كان كفيلا ليبدأ مشروعه الناجح في صناعة السينما، بعدما باع مسرحه وأنشأ استديو لتصوير الأفلام، وبدلا من التوثيق الواقعي، دمج بين حبه للمسرح وشغفه بالحيل البصرية لينتج أفلاما روائية خيالية، تعتمد في شكلها الأساسي على إعدادات وتجهيزات المسارح.

كانت تجربته مسرحية متحررة من قيود الجمهور الجالس أسفل خشبة المسرح، وبدلا من مئات العيون من الجمهور كانت عين واحدة تسجل المشهد هي عدسة الكاميرا السينمائية.

فريق كامل من رجل واحد

داخل استديو في إحدى الضواحي (شرق باريس) اعتاد ميليس تركيب عناصر المشهد السينمائي، الذي يخزنه على أشرطة السينما، مستعينا بضوء النهار النافذ عبر جدران الاستديو الزجاجية لإضاءة مشاهده. ومستعينا ببعض الأصدقاء والفنيين بينما يقوم هو بغالبية المهام، بدءا من كتابة القصة أو معالجتها للوسيط السينمائي الجديد، وتقسيمها إلى مشاهد محددة يمكن تصويرها، وتحديد حركة الممثلين، ورسم لوحات المشهد على الورق قبل تنفيذها في تصميم المشهد، وصناعة الأدوات المساعدة داخل المشهد، وإرشاد الممثلين إلى طبيعة حركاتهم، وقص ولصق الشريط السينمائي لتجهيز الشريط النهائي للفيلم، كان بمثابة فريق كامل من رجل واحد.

يكتب ويرسم ويصنع مجسمات للتصاميم ويُجري المونتاج بيديه، وليس غريبا بالطبع أن يُنتج فيلما يحمل الفكرة والاسم نفسهما حول “فرقة موسيقية من رجل واحد” من بطولته وإخراجه وكتابته.

‎⁨

مشهد من فرقة موسيقية من رجل واحد

بإمكان السينمائيين الآن أن يصنعوا فيلما في الفضاء أو مشهدا لمطاردة داخل مدينة مقلوبة رأسا على عقب، ورحلة بين الأبعاد، كافة التصورات والمشاهد الخيالية يمكن خلقها عبر تقنيات “تخليق المشاهد بالحاسوب” (CGI)، كان فيلم “2001: أوديسة الفضاء” تجربة بصرية مستقبلة حين عُرض عام 1968 بتكلفة إنتاجية جاوزت 10 ملايين دولار؛ لكن كيف كان الحال عام 1896؟

حين أنتج جورج ميليس فيلم “القصر المسكون”، وعرض في أقل من 4 دقائق مشهدا لوطواط طائر يتحول إلى ساحر، ثم يستحضر وعاء ضخما من الفراغ، ويواصل إلقاء التعاويذ؛ لتظهر أشياء من الفراغ. كانت السينما صامتة؛ لكن الصورة السينمائية ناطقة وسحرية وبخيال خصب يتحايل على التقنيات المتاحة حينها.

يمكنك ملاحظة الطابع المسرحي في فيلم “القصر المسكون”..

إذ يبدو كمسرحية من فصل واحد بخلفية واحدة ثابتة يتحرك الممثلون أمامها بأداء مسرحي؛ لكن إمكانيات ميليس لم تقف عند هذا الحد، إذ توالت أفلامه وتجاربه غير المسبوقة خلال 17 عاما، ففي عام 1902 أنتج فيلم الخيال العلمي “رحلة إلى القمر” الذي استلهمه من عوالم “جول فيرن”.

وبدلا عن مشهد واحد صار 6 مشاهد، وبدلا من خدع سحرية أصبح إنتاجا أكبر، يضم مجلس علماء واحتفالا بإطلاق كبسولة إلى الفضاء، والمشهد الأيقوني الذي يظهر قمرا على شكل وجه بشري تخترق كبسولة الفضاء عينه، وعودة البعثة العلمية مرة أخرى إلى الأرض. وبعده بعامين استلهم أيضا من جول فيرن فيلم “الرحلة المستحيلة”؛ لكن هذه المرة نحو الشمس.

كل هذه التفاصيل ظهرت أمام الجمهور قبل قرابة 120 عاما، حينها لم يعلم ميليس ولا فريقه ولا جمهوره ما يقبل عليهم في العقد التالي، إذ قامت الحرب العالمية وانهار معها العالم كما عرفوه، بحدوده واتفاقياته وموازين قواه العظمى واقتصاده بالطبع، وانهارت معه صناعة ميليس السينمائية وشغفه؛ ليتحول من رائد في صناعة سينما غير مسبوقة إلى بائع منسيّ للحلوى وألعاب الأطفال، قبل إعادة اكتشافه واكتشاف إنتاجه السينمائي وحصوله على وسام “جوقة الشرف” أرفع الأوسمة الفرنسية للمبدعين. والاحتفاء به رائدا لفن السينما إذ اعتبره لويس لوميير “خالق المشهد السينمائي” بلا منازع.

وما يزال اسمه ينال التحية والتقدير من صناع السينما العالميين، كان أبرزها في فيلم “هوغو” (Hugo) لمارتن سكورسيزي، والذي قدم سيرة غير ذاتية لساحر السينما الرائد واحتفى بنسخة مرممة لفيلمه الأيقوني “رحلة إلى القمر” (A Trip to the Moon).

شارك الآخرين:

إرسال
شارك
غرّد

اختيار المحرر.. فيديوهات قد تعجبك

قد يُعجبك أيضًا:

تابعنا: